كتاب أنا يوسف ( أيمن العتوم)

لا جزاء للصبر غير الفوز

ظلام كثيف، ليل عميق، برد قارس، كل شيء هامد كأنما ينتظر قدراً غامضاً، ألقت الأشجار رؤؤسها على جذوعها يائسة، وذر التراب ، نفسه على الأرض مستسلماً، الحداة ضلوا، العارفون خدعوا، والأولياء غرقوا في بكاء صامت، ورغاء الجمال في القوافل السيارة لم يعد مسموعاً، لاصوت غير صوت الريح، الموت يمشي حافياً، الذعر بلا قدمين، العتمة سيدة الأشياء، وحدها النجوم الخجلى كانت تتراقص مثل ذبالة مصباح يوشك أن ينطفئ في الأفق البعيد.

أنا يوسف
كتاب أنا يوسف


في تلك الليلة تذاءبت الريح حتى أشبه عزيفها عواء الذئاب، من أين تخرج الذئاب، كيف تولد، من أين لها هذه القدرة على التكاثر الجنوني، كيف يختبىء ذئب خلف كل صخرة؟!كيف ينقادون(للعسعاس) بهذه السهولة؟! كيف يسمعون له كأنما ركبت في طبائعهم ألا يخالفوا عن أمره ولو مرة واحدة؟!

صعد ( العسعاس) الجبل، ركض في خط مستقيم، لم يكن من ذئب من قبله يتقن الركض في خط مستقيم مثله، كانت كل الذئاب فيما مضى تدور حول نفسها،  تتذاءب من كل جهة، تجرى في خطوط مُتعرجة، تركض إلى جهتين في الوقت نفسه، تنكفىء على نفسها، وتصل متأخرة، (العسعاس) أسرع تلك الذئاب، سابق الريح ليصل إلى القمة، وصلت من بعده بقية الذئاب، أتت إلية من كل ناحية، تجمعت حوله، لم يعد من ذئب في فلسطين ولا الأردن إلا وجاء حاسر الرأس، متوقد الذهن، حاضر القلب كي يسمع الموعظة.

 ذئاب(الزرقاء) جاءت، وكذلك شهدت الموقعة ذئاب (الكرك)، ذئاب جبال (صهيون) حضرت، و(قانا)، و(صفد)، و(الجليل)، ومن (وادي القمر) وفد إلى الموقع عدد بعز من الحصر، أما تلك الذئاب التي كانت تنام على ضفاف النهر في أوقات السلم فكانت أول الحاضرين، قال كل ذئب لأخية:(العسعاس سيقول اليوم حكمته، فامض بنا إليه نسمع منه‘ فما من أحد عركته الأيام مثله،وما من ذئب عاش ماعاش، وماعرف منا أحد من الدنيا شيئاً إلا به، ولافهم ذاته إلا فيه، وماصدر عن رأي إلا عنه، ولا أدرك الغاية من وجوده إلا بسببه، أفمن يقضي عمره في تدبر أسرار هذا الكون كمن يمر عليها وهو عن آياتها من الغافلين؟!)

ذئاب نسلت من كل صوب، وتسربت من كل جهة، كانوا كالنمل، لم يخل منها مفحص قطاة، غطت الجبل عن أكمله، كيف يمكن لهذا العدد المرعب من الذئاب أن يجتمع في مكان واحد؟! مد (العسعاس) عنقه وعوى عواء حزيناً كأنما هو قادم من بئر عميقة، فقلدته كل ذئاب الأرض، برزت أنيابه من بين فكيه، فلمعت نيوب كثيرة على ضوء النجوم الخافت، والقمر المحاق، مد (العسعاس) عنقه أعلى، فطامنت الذئاب كلها أعناقها، وبدت جذوع محاربين يستعدون لمعركة كبرى، عو(العسعاس)، فعوى كل ذئب في تلك الناحية.

 ارتجفت الريح، استيقظت الأشجار، ورفعت رؤوسها المسدلة عن صدورها، نهض الرمل، وكادت الصخور تتحرك، تصاعدت موجة العواء الجماعي إلى السماء، كانت جارحة حتى ليكاد المرء يشعر أنها سكين حاد يقطع القلب إلى نصفين، ظل (العسعاس) يعوى، تراجع صوت الريح لصالح هذا العواء، رويداً رويداً أكلت السماء الصوت، وتوقف (العسعاس) عن العواء، ثم خفتت أصوات الذئاب إلى أن سكنت تماماً، وجمدت أطرافها في مواقعها، وتشوفت إلى الذئب الأغبر لتسمع، قال (العسعاس): ما قتلنا أحد عن ريبة.

فهرت صدور القوم مؤمنة على القول، ثم تابع: (ولا خنا عن عهد، ولا نكصنا عن ميثاق، ففيم يكذب البشر؟!، وتابع ( الله يعرف بالقلب لا بالنقل، ولو كان للبشر قلوب لما طاوعتهم أنفسهم أن يفتروا على الله، ولو كانوا يعرفون الله كما نعرفه لما عصوه، ولو كانوا أمناء في التبليغ عنه كما نفعل لما ضلوا، ولو كانوا يدركون أن الأرزاق تجري على الأقدار لما اقتتلوا، هل المحبة إلا رزق، وهل الفهم إلا رزق، وهل الإيمان إلا رزق؟! لكنهم لما تركوا قلوبهم للحسد، وأرواحهم للطمع، وعقولهم للجهل، وأنفاسهم للشيطان ضلوا ضلالاً بعيداً)


للأنبياء قلوب لا تنام

الذئب ريح، لأنه من كل جهة، الريح ذئب، لأنها تعوي مثله، تُرى من أعار صوته للآخر؟! الحادثُ يستعيرُ من القديم، والعارضُ يستعير من الأزلي، والفطن يستعير من الحكيم، لا أقدم من الريح، ولا أحكم من الذئب!! الأحلام أصدقُ من الحقيقة، ظهر الرؤيا بطنُ الواقع، ما كان للروح من الرؤيا في النوم أشد وضوحاً مما كان للجسد من الرؤية في اليقظة، صدق الرؤيا أول منازل النبوة، للأنبياء قلوب لاتنام، ولهم أرواح متصلة بالملكوت الأعلى ولذا يمحي عندهم الخيط الفاصل بين ما يرونه بعيونهم في النهار وبين مايبُصرونه بقلوبهم في المنام، الأنبياء ظل الله.


قسمة القلب

كان يركضُ فوق التراب المدعوس لاهثاً، خشخشات العُشب، وطقطقات الحصى المُتناثر من تحت قدميه تكاد تكون مسموعة، برد شديد ألجأ الكلاب إلى أن تسكت وأن تلتف على أنفسها في مجاثمها طلباً للدفء، الأنعام في الزرائب تلاصقت أجسادها كذلك، لكي تدفع شبح البرد، ونامت واقفة..والكائنات الخفية التي لا يعلم إلا الله أين تختبئ وكيف تعيش وجدت هي الأخرى وسيلتها في اتقاء البرد، وحده البشري الذي لم يستطع أن يمنع البرد من أن ينفذ إلى قلبه.

القميصُ لي!

الحيلةُ استجابة العقل لنداء القلب، الحيلة وجه المكيدة الضاحك، الحيلةُ ثمرتُها، الحيلةُ حياكة، جاءها يعقوب عجلاً، طوى الأرض في شروق اليوم الثالث" إنه لي" لم يقل كلمة أخرى، وهي لم يقل كلمة أخرى، وهي لم ترد، أشاحت بوجهها إلى البعيد، قلق، "هل حدث له شيء؟!" لم تُجب، أعطته ظهرها، دار حتى صار في مواجهتها" تكلمي، هل حدث له شيء؟!" نفضت رأسها بهزات سريعة كعصفور ينقرر في الماء، ثم رمت طرفها في الأرض، رفع وجهها إليه" لا بد أنه هنا، لم يذهب بعيداً".


الحب رزق

قال يهوذا لإخوته في المساء وهم مجتمعون بعد يوم طويل شاق في الحقول" أبونا يتردد على ببيت عمتنا كثيراً" رد عليه لاوي" وليكن ماذا تريد أن تقول من وراء هذه العبارة؟ أخ يزور أخته ويبرها ما الغريبُ في الأمر؟!" أجابه يهوذا " مسكين أنت، هل تظن أن أبانا بار بأخته؟!" تدخل شمعون في الحديث: " أنا أعرف ماتقصد يايهوذا؟ لماذا لا تقول ماتريد صراحة" وغمزه بطرف عينه، ضحك يهوذا: " سأقول، لكنني وددت أن يبدأ إخوتي هؤلاء الجهلة بالقول". 

العشاء الأخير

الحياة تمضي، الأيام تدور، من يوقف الساقية؟ صانعُها، إنها مسألة وقت فحسب، الأبناء يخرجون في الصباح، يرعون في الحقول، يصنعون الرماح، يتدربون على القتال، يزدردون الحجارة، يأكلون كل شيء يتحدون الشمس، يقهرون الخوف، يتغلبون على المستحيل، يفتكون بالضعف، ولا يتركون مجالاً لشيء لا يريدون حدوثه أن يحدث جبارون لكن بطريقتهم، وحده شيء ما، صغير جداً، كأنه رأس إبرة ينخز قلوبهم، كل واحد منهم كانت له تلك الإبرة، يجد ألمها في قلبه، يكبر الألم على هيئة سؤال، يظل السؤال يتضخم حتى يكاد أن ينفجر. 


الفوز بقلب الأب

الساقية تدور، من يوقف الساقية؟ صانعها كبر بينامين، يشبه أخاه، الرحم الواحدة تنجب متشابهين، صارا يجريان معاً" أعلمك علم آبائي يا أخي" " أريد أن نركض، أحب الركض في السهل، هل يسمح أبي لنا بذلك؟!" " ربما لكن اسمع مني، أرى ما سيحدث؟" " أنا لا أفهم" " صحيح، علي أن أنتظر حتى تكبر". 


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-